2.

سبحانك وبحمدك ولا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا علي عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت وأستغفرك

الاثنين، 26 أغسطس 2024

التحريف في النص وطرق حدوثه

 

التحريف في النص وطرق حدوثه
 

 تقديم:
كنت قد وقفت في عدد سابق من أعداد مجلة عالم الكتب الغراء، عند مفهوم التصحيف، وحاولت التأصيل لهذا المصطلح. ولما كان مصطلح التحريف قرين المصطلح الأول، جهدت – عبر هذه الدراسة المتواضعة – في التأصيل له، وإماطة اللثام عن مدلولاته لدى كل من علماء اللغة، وعلماء الحديث، ومصنفي كتب التصحيف والتحريف. وعرَّجت بعد ذلك للوقوف على نماذج منه كما تبدَّت في كتاب ((التنبيه)) لمحمد بن ناصر السلامي (ت550هـ)، الموضوع أصلاً لإزالة التصحيفات والتحريفات التي وقعت في كتاب ((الغريبين)) لأبي عبيد الهروي (ت401هـ). ثم وقفت عند أهم النتائج التي تنجم عن التصحيف والتحريف، كما يعكسها كتاب ((التنبيه)) السابق ذكره.
ولست أدّعي لهذه الدراسة أنها تنطق بالقول الفصل في هذا الميدان، بل هي ليست أكثر من محاولة جادّة يحدوها الإخلاص للوصول إلى مفهوم دقيق لهذا المصطلح؛ فإن أصبت فبفضل الله ومنته وتوفيقه، وإن كانت الأخرى، فحسبي أنني اجتهدت، ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح، وفوق كل ذي علم عليم.
مفهوم التحريف في معاجم اللغة:
يأخذ التحريف في معاجم اللغة معنى التغيير[1] والميل بالكلمة عن معناها، قال الخليل: ((والتحريف في القرآن تغيير الكلمة عن معناها... وتحرف فلان عن فلانٍ وانحرف واحرورف: أي مال))[2].
وأصَّل ابن فارس الكلمة فجعلها تعني حدَّ الشيء، والعدولَ، وتقدير الشيء. وأراد بالعدولِ: الانحراف عن الشيء، يقال: انحرفَ عنه ينحرف انحرافاً، وحرفته أنا عنه، أي عدلتُ به عنه، ولذلك يقال: مُحَارَف، وذلك إذا حُورف كَسبه فمِيل به عنه، وذلك كتحريف الكلام وهو عدله عن جهته[3].
ويبدو أن الأصل في هذه الكلمة الدلالة على المحسوس، فالأصل فيها من تحريف القلم، إذا عُدل بأحد طرفيه عن الآخر، ثم انتقلت فيما بعد إلى المجرَّد، قال الجَوهريُّ: ((وتحريف القلم: قَطّه مُحَرفاً))[4]. وقال الزمخشري أيضاً متدرِّجاً بالدلالة من المحسوس إلى المعنوي: ((انحرفَ عنه، وتحرَّف، وحرَّف القلمَ، وقلم محرف، وحرَّف الكَلِمَ))[5].
وجاء في (تاج العروس): ((حرَّف الشيء عن وجهه: صَرَفه... والتحريف: التغييرُ والتبديل... وهو في القرآن: تغيير الحرف عن معناه والكلمة عن معناها. وقول أبي هريرة: آمنت بمُحرِّف القلوب، أي بمصرِّفها، أو مميلها، أو مزيلها... والتحريف: قطّ القلم محرّفا، يقال: قلمُ محرّف، إذا عُدِلَ بأحد طرفيه عن الآخرِ))[6].
فأصحاب المعاجم يذكرون للتحريف عدة معان، وهي: التغيير، والتبديل، والصرف، والميل، والإزالة. ويمكن توجيه هذه المعاني كلها إلى معنى التغيير والتبديل، فصرف الشيء عن وجهه تغيير له، وكذلك إزالته والميل به.
ونلاحظ من جهة ثانية أن لا علاقة للتحريف بهيئة الكلمة، وإنما هو تغيير يتناول دلالتها فحسب. فهو بخلاف التصحيف الذي هو تغيير في هيئة الكلمة، سواء أكان ذلك عن طريق النقط، أو الرسم، أو الحركة.
مفهوم التحريف اصطلاحاً:
يعرف الشريف الجرجاني التحريف بأنه تغيير في اللفظ من غير المعنى[7]، ولم يقل أحد بذلك، إلا ما نقل عن القرطبي الذي فسر الفعل (يُحرِّفون) بما فسره غيره من أنه التغيير في المعنى، ثم زاد عليه قوله: ((... وقيل: معناه يبدلون حروفه))[8].
وذكر التهانوي للتحريف ثلاثة تعريفات، أولها: في اللغة، وهو تغيير الشيء عن موضعه. وثانيها: عند المحدِّثين فجعل بعضهم التصحيف هو التحريف نفسه، وفرَّق بعضهم بين المصطلحين، وثالثهما: عند القراء، وهو تغيير ألفاظ القرآن لمراعاة الصوت[9].
فالشريف الجرجاني يجعل مفهوم التحريف مناقضاً لدلالته في معاجم اللغة، وبتّ الصلة بين مفهومه اللغوي ومفهومه الاصطلاحي. أما التهانوي فيجعل التعريف عاماً شاملاً، ثم يضيق النطاق قليلاً فيذكر تعريف المحدثين له، ويردف تعريفاً جديداً لم يذكر من قبل، وهو تعريفه عند القراء، ولعل هذا التعريف خاص بعلماء التجويد.
ويظهر من الأمر أن التحريف لدى اللغويين عمدته التفسير لما ورد في آيات القرآن الكريم، فانصرف المعنى لديهم إلى التغيير الدلالي، أما أصحاب كتب الاصطلاح المتأثرون بالفقهاء والمحدثين، فتواضعوا على دلالة أخرى للكلمة، وعنوا بها حين ترد لديهم تغيير اللفظ لا المعنى.
مفهوم التحريف عند المؤلفين في هذا الفن:
لم يرد مصطلح التحريف لدى كل من حمزة الأصفهاني (ت360هـ)، وعلي بن حمزة الأصفهاني (ت376هـ)، واقتصر الأول منهما على التصحيف الذي وقفنا مطولاً عنده في الصفحات السابقة، إذ كان أكثر ما يريد به التغيير الحاصل في هيئة الكلمة. واقتصر الثاني على استخدام مصطلح التصحيف على نحو ما هو معروف لدى حمزة، إلا أنه أطلق على مصطلح التغير في الدلالة مصطلح (الغلط).
وورد مصطلح التحريف عند أبي أحمد العسكري ابتداء من عنوان كتابه (شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف). وهو يريد بالتحريف التصحيف، وإبدال الكلمة بأخرى، أي تغيير الرواية.
قال: ((شرحتُ في كتابي هذا الألفاظ والأسماء المشكلة التي تتشابه في صورة الخط فيقع فيها التصحيف ويدخلها التحريف))[10]. فهو يجعل للتصحيف والتحريف سبباً رئيسياً واحداً، وهو التشابه في الخط، ومعنى قوله: ((فيقع فيها التصحيف)): أي يقع فيها تغير بصورة ما، ويدخلها التحريف، أي يبدل معناها.
ومن أمثلته على التحريف قوله: ((أنشد أحدهم قول ابن أحمر الباهلي الذي يوصي فيه امرأته بألا تنكح من بعده رجلاً مطروقاً ضعيفاً مسترخياً، يطرقه كل أحد لضعفه:






فلا تصلي بمطروق إذا ما سرى بالقوم أصبح مستكينا




فلفته الفرزدق إلى خطئه وقال له: إذا كان يسري بالقوم، أي يسيِّرهم ليلاً ويقودهم فليس بمطروق، وإنما هو: (إذا ما سرى في الحي)، ومراد الشاعر: إن هلكت وصرت إلى أن تتزوجي غيري فلا تنكحي رجلاً ضعيفاً إذا ما سار ليلاً في الحي أصبح مسترخياً... وهذا من التحريف لا من التصحيف))[11].
فالتحريف واقع هنا في قوله: (في الحي) التي غيرت إلى (بالقوم).
مفهوم التحريف عند علماء الحديث:
انتفى مصطلح ((التحريف)) عند ابن الصلاح (ت643هـ) واقتصر على استخدام مصطلح ((التصحيف)). ولعل ذلك ما يؤكد أن المصطلح طارئ على علوم الحديث[12]، وأن التصحيف والتحريف كانا يندرجان تحت مصطلح ((التصحيف))، فحسب.. وقد أورد أمثلة على التصحيف اللفظي والتصحيف المعنوي، ويفهم من أمثلته على التصحيف المعنوي أنه ما أصبح يطلق عليه اسم التحريف فيما بعد.
وأطلق ابن حجر (ت852هـ) التصحيف على ما كان فيه تغيير في النقط كما رأينا سابقاً، وأطلق مصطلح ((التحريف)) على ما كان فيه تغيير في الشكل، فقال: ((إن كانت المخالفة بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق، فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمصحّف[13]، وإن كان بالنسبة إلى الشكل فالمحرّف))، وهذا يعني أن التحريف لديه ينصب على اللفظ لا المعنى.
وكذلك الأمر لدى السيوطي الذي نظر إلى أن التحريف هو التغير الحاصل في شكل الكلمة بتقديم أو تأخير، ولا يراد به ما غيّرت أحرفه تغييراً كاملاً، قال في ألفيته:






فما يغير نقطه مُصَحَّفٌ أو شَكْلُه، لا أحرفٌ مَحَرَّفُ[14]




ومن هنا يمكن الانتهاء إلى نتيجة مفادها أن المتقدمين كانوا يجعلون التصحيف والتحريف نوعاً واحداً، فيسمون أحدهما باسم الآخر، وأن مصطلح ((التحريف)) مصطلح جديد طارئ في علوم الحديث[15]، وأن وجوده في ميدان اللغة والأدب أسبق منه في ميدان الحديث.
مفهوم التحريف عند السلامي:
إن ما يلفت النظر في كتاب ((التنبيه)) أن المصنّف لم يصرح بمصطلح ((التحريف)) إلا في موضعين، أما الأول فهو قوله: في مقدمة كتابه: ((فجردتُ منه الألفاظ التي وقع فيها السهو والتحريف، والغلط والتصحيف))[16]. وأما الثاني فهو قوله: ((وهذا خطأ في التفسير وتحريف للمعنى)).
ومراد السلامي من هذا المصطلح الخطأ الدلالي، سواء أوقع في تفسير ألفاظ الحديث الشريف، أم في تفسير آيات القرآن الكريم. وربما سمي التحريف خطأ في التفسير.
فمن أمثلته في الحديث النبوي تفسير الهروي لكلمة (المَلَّةِ) الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم مجيباً الذي سأله عن أقربائه الذين يصلهم ويقطعونه: ((فكأنَّما تَسفي في وجوههم المَلّة)). وفسر الهروي (المَلَّةَ) بالتراب المحمي فرد السلامي هذا التفسير فقال: وهذا خطأ، وإنما هي الرماد الحارُّ))[17].
ومنه أيضاً تفسير الهروي لكلمة (المُفاوضة) الواردة في سؤال معاوية لدغفل: بم ضبطتَ ما أرى، فقال دغفل: بمفاوضة العلماء. ففسرها أبو عبيد بأنها (المساواة)، فردَّ السلامي هذا التفسير أيضاً، فقال: ((وهذا التفسير خطأ، لأنَّ المفاوضة للعلماء ليست المساواة لهم، وإنما المفاوضة هي المخالطة والمذاكرة والمباحثة بالعلم حتى يصير عالماً. فأما المساواة فلا معنى في هذا، إذ لو ساواهم في العلم والحفظ لما كان لقوله (بمفاوضة العلماء) معنى، إذ هو مثلهم))[18].
ومنه أيضاً تفسير الهروي لكلمة (النقيعة)، فقد فسَّرها بأنها الطعام الذي يصنع عند الإملاك، وقد رد السلامي هذا التفسير فقال: ((قوله: النقيعة التي تُصنَعَ عند الإملاك خطأ ولا نعرف ذلك في اللغة. وإنما النقيعة الطعام الذي يُصْنَعَ للقادم من السفر))[19]. وعوّل السلامي في هذا المعنى على ابن السكيت في كتابه (إصلاح المنطق) وابن قتيبة في (أدب الكاتب)، والذي ينقله ابن السكيت هو ما جاء به الهروي.
وأما التحريف في معاني الآيات، فمن أمثلته ما فسر به الهروي قوله تعالى: {واسجد واقترب}، فقد جعل الخِطاب في (اسجد) للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي (اقتربْ) لأبي جهل[20]. ورد السلامي هذا التفسير وخطأ الهروي فيه، وبين أن هذا التفسير لمن ينقل عن واحد من أئمة هذا الشأن، قال: ((... وقوله: اقتربْ يا أبا جهل، خطأ منه في تفسير القرآن ومعانيه، وما بلغني ذلك عن واحد من العلماء ولا عرفته عن صحابي ولا تابعي في الكتب التي قرأت وسمعت من تفسير القرآن ومعانيه))[21].
وفسر الهروي قوله تعالى: {وهم ينهون عنه ويَنأونَ عنه} فقال: ((أي ينهون الناس ويتباعدون عنه)). فخطأه السلامي بقوله: ((وهذا تفسير لم ينقل عن أحد ممن ذكر عنه التفسير من أهل العلم ولا سمعنا به إلا في كتابه، وهو غير صحيح ولا يليق بمعنى الآية. فإن المفسرين للقرآن مجمعون كلهم على أن الآية نزلت في حق أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان ينهى الكفار عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم)).
ومنه أيضاً أن الهروي فسر كلمة (عزّا) في قوله تعالى: {ليكونوا لهم عِزا}، فقال: ((أي أعواناً وَمَنعة، يعني أولاداً))[22]. ورد السلامي هذا التفسير فقال: ((وهذا خطأ والصواب: يعني الأنداد)).
وبعد أن وقفنا هذه الوقفة المطولة عند مفهوم التصحيف في معاجم اللغة وكتب الاصطلاح من جهة، وعند المؤلفين في هذا الباب من جهة ثانية، وعند علماء الحديث عامة وفي كتاب ((التنبيه)) خاصة، يحسن أن نختم هذا الفصل ببيان نتائجهما:
نتائج التصحيف والتحريف:
مما لا شك فيه أن للتصحيف والتحريف أثراً ظاهراً في المقروء والمكتوب معاً، ويمكن حصر آثارهما في تغيير الحقائق التاريخية، وتغيير الأحكام الفقهية، والتخليط في أسماء الرجال، والتغيير الدلالي. وفيما يأتي تفصيل ذلك:
1 – التغيير في الحقائق التاريخية وأسماء الرجال:
ونجد ذلك في موضعين من الكتاب، أما الأول فهو قوله: ((ومن ذلك أنه ذكر في أول حرف السين مع الهمزة، قال: فأخذ جبريل عليه السلام بحلقي فسأَبني، أي خنقني))[23].
وقد وقع في هذا الحديث إبدال كلمة (المَوْلد) بكلمة (المَبْعث)، مما أدى إلى تغير حقيقة تاريخية في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ودليل السلامي على نقص هذه الرواية حقائق التاريخ والسيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم في المولد لم يكن مكلفاً، ولم يؤمر بشيء، وإنما كان هذا في أول ما جاءه جبريل عليه السلام في بداية البعثة[24].
وأما الثاني فهو رواية الهروي لحديث أبي بكر، رضي الله عنه: ((نَظَرْتُ يوم بَدْر إلى حلقة درع قد نَشِبَتْ في جبين رسول الله صلى الله عليه وسلم))[25]، فقوله: ((يوم بَدْر)) خطأ وتغير لرواية الحديث، قال السلامي: ((وإنما كان هذا في يوم (أحُدٍ) لا يوم بَدْر، لأنه صلى الله عليه وسلم يوم (أحُد) لبس لامَته وباشر القتال، فناله ذلك لما اختلط المسلمون واشتغلوا بأخذ أموال المشركين، وكرَّ المشركون بعد انهزامهم، وصاح الشيطان: قُتل محمد))[26].
2 – التخليط في أسماء الرجال:
وذلك في ثمانية مواضع من الكتاب[27]، منها قوله: ((ومن ذلك ذكر باب الفاء والقاف، قال: وقال الوليد ابن عبدالملك: أفقر بعد مَسْلَمة الصيدُ... وقد أخطأ في قوله: (الوليد بن عبدالملك)، لأن الوليد كان أخا مَسلمة، وكان قد مات قبل مسلمة بسنين كثيرة... وإنما هذا قول يزيد بن عبدالملك أخي مسلمة، وكان قد ولي الأمر بعد هشام بن عبدالملك، ومات في أيام هشام أخوه مسلمة))[28].
وأورد الهروي خبراً مفاده أن ابن عمر ركب ناقة فارهة فمشت به مشياً جيداً، فقال:






كأن راكبها غصن بمروحة إذا تدلت به أو راكب ثَمِلُ




فرد السلامي على تغيير الهروي في اسم القائل، فقال: ((قوله: ابن عمر خطأ، وإنما هو عمر بن الخطاب، لا ابنه))[29].
ومنه أيضاً أن الهروي قال في شرحه كلمة (صاف): ((ومنه الحديث الآخر: صافَ أبو بكر عن أبي بُرْدَة، بدال))[30]. فصحح السلامي الرواية فقال: ((عن أبي بَرْزَة الأسلمي بزاي وفتح الباء... وقد صحفه المصنف، واسم أبي بَرزة: نَضْلةُ بن عُبيد، وأبو بُرْدة فجماعة من الصحابة))[31].
فواضح مما تقدم أن التصحيف نجم عنه تخليط بين شخصيات تاريخية مشهورة، وبين أسماء مجموعة من الصحابة.
3 – التغيير في الحكم الفقهي:
ونقع عليه في أربعة مواضع من الكتاب[32]، منها أن الهروي قال: ((وفي الحديث: لينتهين الناس عن ودعهم الجمعات...))[33]، وهذه الرواية بهذه الصيغة تؤدي إلى تغيير حكم فقهي، فيصبح – وفق هذه الرواية – من واجب الحاكم أن يقاتل الناس جميعاً. والصواب في رواية الحديث: ((لينتهين أقوامٌ)) بصيغة الجمع المنكّر الذي يفيد التقليل، إذ ((لو فعل المسلمون كلهم ذلك لوجب على الإمام قتالهم))[34].
ومنه أيضاً الحديث الذي رواه الهروي من أن النبي صلى الله عليه وسلم ((نهى أن يجلس على الولايا أي البراذع)). والصواب في رواية الحديث أنه ((نهى أن يصلى على الولايا))، وهي البَراذعِ التي تلقى على ظهر الدواب، خشية أن ينالها دم أو قيح من عقور ظهورها))[35].
4 – التغير الدلالي:
وهو الأكثر ظهوراً في الكتاب، والأمثلة عليه كثيرة، من ذلك ما رواه الهروي في حديث أبي بكر أنه قال: ((ثم رَكبت أنفي، أي ضَربت))، فغير لفظ (أنفه) إلى (أنفي) بإضافة الأنف إلى الضمير فأصبح المعنى هذه الرواية محالاً، فلا يمكن للإنسان أن يضرب أنفه بركبته وهو قائم، وهذا ما قال به السلامي[36].
ومنه أيضاً رواية الهروي بيتاً من الشعر مصحفاً وهو قول الشاعر:






......................... بأعوادِ رَنْدٍ، أو ألاوِية شُهْرا




فقد رواه الهروي بالهاء فصحفه وغير دلالته، فصحح السلامي روايته إلى (شُقْرا) مستنداً في ذلك إلى دليل معنوي وهو أنَّ العود لونه أشقر[37].
نستنتج مما تقدم أن التحريف يراد به تغيير الكلمة والميل بها عن معناها إلى معنى آخر، وأن المتقدمين كانوا يسوون بين المصطلحين، أعني مصطلحي التصحيف والتحريف، ويظهر لنا من ناحية أخرى أن مصطلح التحريف مصطلح طارئ في علوم الحديث، وأن مراد السلامي من هذا المصطلح في كتابه ((التنبيه)) هو الخطأ الدلالي سواء أوقع ذلك في تفسير آيات من القرآن الكريم أو ألفاظ الحديث النبوي الشريف.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] الصحاح (حرف).
[2] العين (حرف) 4: 210.
[3] مقاييس اللغة (حرف).
[4] الصحاح، والأساس (حرف).
[5] الأساس (حرف).
[6] تاج العروس (حرف).
[7] التعريفات: 60.
[8] تفسير القرطبي: 6: 115.
[9] كشاف اصطلاحات الفنون: 2: 77.
[10] شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: 174-175.
[11] المصدر السابق: 94.
[12] حاشية الشيخ أحمد محمد شاكر على ألفية الحديث للسيوطي: 174.
[13] نخبة الفكر: 32، وتدريب الراوي: 386، وألفية الحديث السيوطي: 174.
[14] ألفية الحديث للسيوطي: 174.
[15] المصدر السابق.
[16] التنبيه: 68/ب.
[17] المصدر السابق: 63/أ.
[18] المصدر السابق: 63/أ.
[19] المصدر السابق: 75/أ.
[20] المصدر السابق: 55/أ.
[21] السابق نفسه.
[22] التنبيه: 68/أ، وينظر: الكشاف 2: 9، والبحر المحيط 2: 99.
[23] التنبيه: 24/أ.
[24] نفسه.
[25] المصدر السابق: 19/ب.
[26] نفسه.
[27] التنبيه: 26/أ، 23/أ، 38/ب، 51/ب، 65/ب، 76ب، 78/ب.
[28] التنبيه: 51/ب.
[29] التنبيه: 23/ب.
[30] التنبيه: 54/أ.
[31] التنبيه: 54/أ.
[32] التنبيه: 20/ب، 64/أ، 73/ب، 75/ب.
[33] التنبيه: 74/أ.
[34] التنبيه: 75/ب.
[35] التنبيه: 75/ب.
[36] ومنه في تفسير آيات من القرآن ما جاء في: 55/أ، 68/ب، والأمثلة على ذلك كثيرة.
[37] التنبيه: 21/أ.




Facebook Twitter X WhatsApp LinkedIn Telegram
Messenger https://www.alukah.net/images/alukah30/icons/share.png








https://www.alukah.net/images/alukah30/icons/relatedarticles.pngتحريف آيات الحدود عن مواضعها
حيل الفلسفة أوقعت "الجابري" في شرك التحريف!
الاعتداء على المصطلحات التراثية
التنبيهات في التصحيفات والتحريفات (1/ 18)
التبديل والتحريف في الشرائع السابقة




https://www.alukah.net/images/alukah30/icons/suggestedcontent.pngغنى النفس (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
مفهوم المفهوم والفرق بينه وبين المصطلح(مقالة - حضارة الكلمة)
مختصر بحث: بناء المفاهيم ودراستها في ضوء المنهج العلمي "مفهوم الأمن الفكري أنموذجا"(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق)
بناء المفاهيم ودراستها في ضوء المنهج العلمي (مفهوم الأمن الفكري أنموذجا) (WORD)(كتاب - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معلا اللويحق)
المفهوم السياسي للأيديولوجيا(مقالة - موقع أ. د. عبدالحليم عويس)
ما معنى الفكر ؟(مقالة - موقع د. محمد بريش)
مفهوم الحرية في الإسلام ومفهومها في الفكر الغربي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
العالم الإسلامي: مفهوم واحد أم مفاهيم متعددة؟(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
مفاهيم ضائعة (1) مفهوم الجار في الإسلام(مقالة - آفاق الشريعة)
المفهوم (مفهوم الموافقة والمخالفة في الفقه)(مقالة - آفاق الشريعة)




https://www.alukah.net/images/alukah30/icons/visitorscomments.png




3- تحويل إلى المجلس العلمي
أحمد - السعودية 20-02-2010 09:05 AM
الأخ الكريم/ حسين حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، وبعد
فشكراً لك على تواصلك مع موقع ((الألوكة))،
ونفيدك أنه يمكنك الحصول على بغيتك بزيارة منتديات ((المجلس العلمي))
التابع للموقع على الرابط التالي:
http://majles.alukah.net/
والتسجيل فيها، ثم زيارة ((منتدى مكتبة المجلس))؛
إذ فيه كثير من الأعضاء يستطيعون تلبية طلبك،
أو بإمكانهم أن يدلوك على مكان حاجتك!.


2- طلب
حسين - الجزائر 19-02-2010 06:33 PM
اتقدم الي سيادتكم المحترمة بطلبي هدا المتمثل في التعارف للمصطلحات التالية :
التحريف
تكييف
تعطيل
تشبه
و دالك بمفهوم القران الكريم
تقبلو فائق الشكر و الاحترام


1- تهنئه
ايمن ليبيا 24-06-2009 06:21 PM


بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا
وفتح عليكم وزادكم من علم إنه ولي ذلك والقادر
========================


يحرفون الكلِم
إسلام عبد الهادي
9/5/2017|آخر تحديث: 28/4/202402:20 م (بتوقيت مكة المكرمة)
احفظ المقالات لقراءتها لاحقا وأنشئ قائمة قراءتك




وعد الحفظ مستمر


حفظ القرآن في السطور والصدور بهذا الشكل الأمين، الذي فيه من الجلال والجمال والاحترام لهذا الكتاب العظيم، هو وجه من وجوه الإعجاز الذي لم ولن يحدث مع كتاب آخر، (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت: ٤١، ٤٢). ولقد رأينا جميعًا صدق القرآن عندما يخبرنا أنه محفوظ بحفظ الله له؛ فلا تبديل ولا تغيير ولا تحريف أصابه منذ أكثر من ١٤٣٠ سنة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: ٩).
وأهل الكتاب يحرفون كلامه
وليس عبثًا أن تأتي في القرآن (المحفوظ) أفعال أهل الكتاب مع الكتب المقدسة التي جاءتهم نورًا وهداية. يقول الله عنهم: (مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) (النساء: ٤٦). أما في سورة المائدة فيقول الله عنهم: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ) (٤١) إذًا فالتحريف عند هؤلاء أخذ أشكالًا متعددة: (عَن مَّوَاضِعِهِ) و(مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ).. والهدف من وراء تحريف الكلام – كلام الله – هو أن يخدم الكلام المحرف مصالحهم الشخصية وأهواءهم، فإذا ما جدَّ جديد يحرفون المحرف، وهكذا كلما زادت الأطماع زادت عملية التبديل والتحريف في المحرف أصلًا!
التأويل بغير علمٍ كالتحريف
رحل "مسروق" إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام. فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها!

ولكن، في رأيي، تفسير القرآن بالرأي المجرد، وأخذ معنى منه بغير علم، أو الاستدلال ببعض آية بعيدًا عن الآية كاملة، وبعيدًا عن فهم السياق الذي جاءت فيه الآيات، وبعيدًا عن توضيحات السنة النبوية، وبعيدًا عن قواعد اللغة العربية، وبعيدًا عن روح الشريعة وطبيعتها.. هذا كله نوع من أنواع التحريف اسمه (تحريف المعنى)، وإذا حُرِّف المعنى ضاع المبنى ولا بد من ذلك!
وإلا فما قيمة كلام محفوظ في الأذهان، محفور على الجدران، مكتوب على الأوراق، لكنه لا يعمل في نفس الإنسان معناه الحقيقي، ويعتقد الإنسان في الكلام غير مراد الكلام نفسه؟! فأصبح كثير من حقائق القرآن مشوشًا على كثير من العقول والأفهام، وكثير من نصوصه محرفًا في أذهان الناس! والسبب هو القول فيه بغير علم، وهوى وجهل، ووضعه في غير موضعه.
ورد عنهم
أورد الإمام ابن كثير – رحمه الله – في مقدمة تفسيره أخبارًا في تحرُّج السلف عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛ فتجد علماء الصحابة، وهم أعلم الناس بمراد القرآن وساعة نزوله وسبب نزوله، ومع ذلك كانوا يتوقفون عن القول في القرآن، وأحيانًا امتنع بعضهم عندما سُئل عن الآية الواحدة، وأحيانًا كانوا يتخوفون من تفسير كلمة واحدة!
فعن إبراهيم التيميرحمه الله – أن أبا بكر الصديق سُئل عن قوله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فقال رضي الله عنه: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟ وعن أنس – رضي الله عنه – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنهقرأ على المنبر (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وعن ابن أبي مليكةرحمه الله – أن ابن عباس – رضي الله عنهما – سُئل عن آية – لو سئل عنها بعضكم لقال فيها – فأبى أن يقول فيها.
لا تشارك في التحريف
الخوض في التأويل بغير علم بأصول اللغة ومدلولاتها كله نوع من أنواع التحريف اسمه (تحريف المعنى)، وإذا حُرِّف المعنى ضاع المبنى ولا بد من ذلك!
الخوض في بحر القرآن (كمفسر) بغير ما يؤهل لذلك يُغرق المقتحم فيه؛ لذلك تجد يدي الرسول – صلى الله عليه وسلم – ممتدة تحجزنا وتحول بيننا وبين التقوُّل على القرآن بغير علم، بل ويعدد أشكال التحذير حتى نكون على يقين من جدية الأمر وخطورة المسألة؛ فمرة يحذرنا من القول بمجرد الرأي، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (رواه الترمذي وحسنه).
ومرة يحذرنا من القول بغير علم، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) (رواه الترمذي وحسنه). فأنت ترى هنا أنه صلى الله عليه وسلم يعلِّمنا احترام التخصص واحترام المعقول والمنقول، ويعلِّمنانا أن نتعلم حتى نقول عن علم ويقين وعن ثبات المعرفة وليس ظنيات الجهل والأوهام والتخبط.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -: (فمن قال في القرآن برأيه، فقد تكلف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأتِ الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمه الصواب) (مجموع الفتاوى ٣٧١/ ١٣).
للمعنى ذاته، اعلم أن من قال في القرآن برأيه مفسرًا وشارحًا وموضحًا بغير علم ينطلق به لهذه المهمة العظيمة، إن أصاب فيها فقد أخطأ؛ لأن الذي يصيب مرة بالجهل، يعتمد على جهله بعد ذلك ويتخبط في ظلمات الجهل وأوهام العقول وضلالات الأذهان، ويخطئ آلاف المرات في حين يظن نفسه على الصواب؛ لأنه أصاب المعنى مرة واحدة قبل ذلك فيضل ويضل!
امتنع وتعلم وانشر
في حالة أنك لا تدري، وجب عليك السكوت عمَّا لا علم لك به، ويعينك على هذا السكوت آية من القرآن نفسه وتجربة إمام. أما الآية فهي قول الله تعالى: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: ٣٣). قال الإمام البغوي – رحمه الله -: (هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين). أما التجربة فهي للإمام مسروق – رحمه الله -: (اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله).
سئل أبا بكر الصديق عن قوله تعالى (وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) فقال رضي الله عنه: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟
ثم الواجب على الذي لا يدري أن يتعلم ويسأل ويبحث، وقدوتك في هذا السعي المبارك حديث وإمام.. أما الحديث فهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» رواه البخاري عن عثمان – رضي الله عنهوالخيرية هنا تشمل كل من يحاول ويسعى إلى تفهم القرآن وعلومه، وليس فقط ما يتبادر إلى الذهن من تجويده.
أما الإمام فهو الإمام مسروق – رحمه اللهالذى قال العلامة الشهبي – رحمه الله – عن تجربته في تحصيل وتفسير وتعلم القرآن: رحل "مسروق" إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي يفسرها رحل إلى الشام. فتجهز ورحل إلى الشام حتى علم تفسيرها!
وعندما تتعلم وتكون من أهل المعرفة والقول، يجب عليك أن تنشر خيرك على غيرك، ويجب القول فيما سُئلت عنه مما تعلمته (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) (آل عمران: ١٨٧). وما بين السكوت والتعلم والنشر تنبت شجرة المعرفة لمعاني القرآن ومراد الله فيه منا، ككلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
=========
فهم النص القرآني بين الانضباط والتسيب
محمد البويسفي
20/12/2017
 
كان تفسير كتاب الله تعالى أول العلوم نشأة في الفكر الإسلامي، من حيث التدوين والتصنيف والممارسة، ومع تطور العلوم الإسلامية واتساع رقعتها، وكثرة الاشتغال بها، ظهرت الحاجة إلى ضبط العملية التفسيرية، وبدأ البحث عن القواعد والأصول المحكمة التي من شأنها أن تعصم المفسر من الخطأ، وتمنع العبث بالنصوص الشرعية وليّ أعناقها، وتضبط عملية الفهم عن الله تعالى، واستنباط الأحكام والحكم الشرعية من مظانها، بحيث تكون قانونا مُحْكَمًا في تفسير النص الشرعي.
وهذا العلم النافع الذي قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأنه: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر". وقد بذل العلماء غاية جهدهم في فهم كتاب الله تعالى واستنباط الأحكام والمعاني الشرعية منه، ولما كان الفهم السليم المنضبط أول الخطوات المنهجية للاستفادة من كتاب الله، كانت صيانةُ هذا الفهم من التحريف والانتحال أولى الأولويات، لأن تحريف كتاب الله أمر مستحيل لتكفل الله تعالى بحفظ كتابه، لقوله عز وجل: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ".
والذي يدفع إلى تحريف الفهم وإلى التأويل الفاسد هو موقع النص القرآني في أمة الإسلام بكل طوائفها ومذاهبها، إذ النص هو مِحْورُ الفكر الإسلامي منذ النشأة إلى اليوم، حتى وُصفت الحضارة الإسلامية بحضارة النص، وكلُ ما أنتجه الفكر الإسلامي لا يعدُو أن يكون إما موثقا للنص أو محققا له، أو مساعدا على فهمه أو مستنبطا منه. وهناك سبب موضوعي آخر يدفع إلى تحريف فهم طبيعة النص الشرعي لكونه حَمَّالُ أوجه، ويقبل تعدد المفهوم، إضافة إلى احتياج الناس إلى إضفاء الشرعية على أفكارهم وأقوالهم، وفي هذا يقول ابن أبي العز الحنفي: "ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص".
وقد دأبت الحركات الإصلاحية والتيارات الفكرية والعقدية، على استمداد مشروعيتها من النص، فلا تقبل فكرة أو دعوى ما لم يشهد لها النص بالصلاحية، ولذلك نرى الكل يلوذ بالنص ويلجأ إليه لاستمداد المشروعية منه، وهذا ما أعطانا فُهُومًا متعددة للقرآن الكريم قد تصل إلى حد التناقض. والذي جعل مثل هذه المفهوم تكثر وتتعدد إلى حد الفوضى وضياع الحقيقة الشرعية بين أهل الأهواء والضلالات، هو عدم وجود أصول وقواعد للتفسير تضبط الفهم عن الله تعالى، وقد قيل في شأنه بأنه من العلوم التي لم تنضج بعد.
الأخذ مباشرة من القرآن يستلزم من الضوابط والشروط ما لا يمكن أن تتحقق إلا في العلماء والمجتهدين، ومن لا يمتلك الأدوات المساعدة على الفهم والاستنباط، معرَّضٌ للخطأ
فالحديث مثلا له أصول تضبط نقله وتحصنه من عبث العابثين من الزنادقة والمبتدعين، لهذا فكلل المحاولات التي أرادت العبث بالسنة باءت بالفشل. وكذلك الفقه له أصوله التي تضبط عملية الاستنباط والتشريع وتقيه من زيغ الأهواء وانحراف المفهوم، إلا أنَّ التفسير بقي بلا أصول ولا قواعد تضبط وتحكم العملية التفسيرية، حتى إن البعض نزع عنه صفة العلمية، وقال إنه لم يرتق بعد إلى مستوى العلم، بمعنى أنه يفتقر إلى الجانب التنظيري التأطيري، الذي يحميه من تَقَوُّلِ القائلين وانتحال المبطلين، لهذا كان من أهم تجليات هذه الفوضى: التأويل الفاسد والانحراف في فهم النصوص الشرعية، والذي أنتج بدوره انحرافا في السلوك لدى أفراد وجماعات، كانت نتائجها وخيمة على الأمة.
ما زالت ترخي بظلال وخيمة أهلكت الحرث والنسل إلى يومنا هذا، من فُرقة في الدين، ومروق منه، وإلحاد فيه، وصولا إلى الاقتتال والفتنة بين أبناء الأمة والملة الواحدة، قال ابن أبي العزّ في وصف هذه النتائج: "وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية، فهل قُتِلَ عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد".
ومن الأسباب التي أدت إلى الانحراف في الفكر والاعتقاد والسلوك في عصرنا الحالي، وأدت إلى التكفير واستباحة الدماء والأموال والأعراض، هي الأخذ مباشرة من القرآن دون الرجوع إلى أقوال العلماء أو التمكن من العلوم الشرعية. وإذا كان هذا الأمر -أي الأخذ المباشر من القرآن الكريم- ممكنا زمن الصحابة الكرام لكونهم أعرف بلسان العرب، والقرآن نزل بلسانهم، وشاهدوا أسباب النزول، وعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه اليوم غير متاح لغير العلماء الربانيين.
إذا كان الغرب اجتهد وأبدع في العلوم الإنسانية والمادية بما أتاح له التربع على قيادة العالم، فإن واجب المسلمين اليوم هو بعث الفكر الإسلامي وتجديده
والأخذ مباشرة من القرآن يستلزم من الضوابط والشروط ما لا يمكن أن تتحقق إلا في العلماء والمجتهدين، ومن لا يمتلك الأدوات المساعدة على الفهم والاستنباط، معرَّضٌ للخطأ والانحراف أكثر من غيره، وقد أرشدنا الله تعالى إلى الطريق الحق في ذلك عندما قال: "فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ"، واستسهال الأخذ من القرآن مباشرة أنتج ظاهرة تجاوز العلماء، وإزاحتهم من المكانة التي تتيح لهم القيادة والتوجيه والإرشاد للأمة عامة والشباب خاصة.
وبسبب هذا تصدَّرَ غير المتأهلين للتفسير والإفتاء والدعوة من شباب حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام الذين لا فقه لهم ولا علم، فعمدوا إلى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ففهموها على غير معانيها ومقاصدها الصحيحة، وأولوها في غير محلها، وبغير شروطها، وأنزلوها على مناط غير مناطها، ومعلوم أن تحقيق المناط ليس بالأمر السهل، ولا ينبغي أن يخوض فيه إلا العلماء الراسخون في العلم وفق ضوابط وقواعد محددة. وهذه الطريقة- أي الأخذ مباشرة من القرآن بغير حقه- هي التي جرَّت على الأمة الإسلامية الكثير من الويلات قديماً وحديثاً.
إذا كانت جهود علماء الأمة قد أحكمت توثيق النص الشرعي بما لا يدع حاجة إليه اليوم، فإن الاشتغال به اليوم تضييع للجهد
ونفس الأمر ينطبق على الأخذ بالحديث مباشرة دون معرفة بمعارضة حديث آخر له، أو كونه منسوخا، أو مرجوحا، أو غير ذلك مما اشترطه العلماء الذين شرحوا قولة الإمام الشافعي: "إذا صح الحديث فهو مذهبي"، حتى قال العلماء يأخذ بالحديث من كملت له آلة الاجتهاد، وليس الأمر متاحا لمن هب ودب ممن ليست له أهلية الاجتهاد. قال أبو عمرو ابن الصلاح: "فمن وجد من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث، فلم يجد لمخالفته عنه جوابا شافيا، فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرا له في ترك مذهب إمامه هنا".
إذا كانت قضايا خطاب الوحي تكشف جهود العلماء المسلمين في خدمة النص الشرعي توثيقا وفهما واستنباطا، وذلك بإبداع مناهج وقواعد علمية صارمة مانعة من الانحراف في الفهم والسلوك، بما أسس ثقافة إسلامية راقية امتدت عبر العصور وأنقذت البشرية في ذلك الزمن من التيه العقدي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي، وإذا كان الغرب اجتهد وأبدع في العلوم الإنسانية والمادية بما أتاح له التربع على قيادة العالم، فإن واجب المسلمين اليوم هو بعث الفكر الإسلامي وتجديده.
وإذا كانت جهود علماء الأمة قد أحكمت توثيق النص الشرعي بما لا يدع حاجة إليه اليوم، فإن الاشتغال به اليوم تضييع للجهد. ويبقى مجال فهم النص الشرعي -على ما بُذل من جهد فيه- محتاجا للتجديد بما يناسب حاجة المسلمين اليوم، لأن كثيرا من الغيورين على الإسلام أوتي من جهة الفهم لا من جهة التطبيق. ولذلك فإن فهم النص الشرعي ليس دعوىً يدعيها كل أحدٍ، بل هو مضبوط بأصول وقواعد متينة، ومن حُرم هذه القواعد والأصول حُرم الوصول والتجديد، المطلوب اليوم تجديد العلوم المساعدة على فهم النص الشرعي وتنزيله.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
====================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اساليب التحريف من المحرفين 3.

 اساليب التحريف من المحرفين 3. طرق التحريف في كل النصوص اللغوية في شتي معارف العلوم للمدون   طرق التحريف في كل النصوص اللغوية في شتي...